يكتب  أحمد أبو عرتيمة عن تجربة إنسانية تكاد اللغة تعجز عن حملها، جامعًا شهادات أربع أمهات فلسطينيات فقدن أبناءهن تحت القصف الإسرائيلي، ليكشف كيف تتشكل الحياة اليومية في غزة بعد أن تتحول الأمومة إلى حزن دائم، وكيف تصير الذاكرة بيتًا أخيرًا لأطفال لم يبقَ لهم أثر سوى الأسماء والصور والكلمات.

 

ينشر موقع ميدل إيست آي هذه الشهادات بوصفها نافذة على كارثة إنسانية شاملة، حيث يعيش قرابة مليوني فلسطيني بين الفقد والحداد منذ أكتوبر 2023، وتحمل كل أسرة قصة دمارها الخاص، في سياق قتل جماعي وهدم واسع للمنازل، جعل موت الأطفال حدثًا متكررًا لا استثناءً مفجعًا.

 

مدفونون تحت الركام: أم تفقد أبناءها الأربعة دفعة واحدة

 

تفقد الشاعرة آلاء القطرواي أبناءها الأربعة في ديسمبر 2023، بعد أن حاصرت القوات الإسرائيلية المنزل الذي احتموا به في خان يونس مع جدتهم عقب اعتقال والدهم. تتصل ابنتها أوركيدا بوالدتها طالبة النجدة، ثم ينقطع الاتصال عندما يصادر الجنود الهواتف، لتعيش الأم أربعة أشهر من الانتظار القاتل قبل أن يؤكد الواقع مقتل الأطفال جميعًا تحت أنقاض المنزل.

 

تكتب آلاء مخاطبة ابنتها عن الجسد الصغير المدفون تحت الخرسانة، وعن الصوت الأخير الذي وعد بالانتظار. تستعيد أثر الجراحة القيصرية التي أنجبت عبرها أبناءها، وتصف كيف تحوّل خيط رفيع في جسدها إلى ألم دائم يذكّرها بأنها أنجبت أربعة أطفال ثم بقيت وحدها. ترى في إعلان وقف إطلاق النار لحظة ملتبسة، فلا تصدّق توقف الحرب بقدر ما تؤمن بأن الاحتلال وحش يقتات على الإنسانية.

 

تحت الأنقاض: بيت ينهار وأحلام تُخنق

 

تروي آية شمعة فقدان طفلين من أصل ثلاثة عندما يقصف الطيران الإسرائيلي منزلها في يناير 2024. يموت يامن اختناقًا تحت الركام، ويُقذف الرضيع ريان إلى منزل مجاور، بينما ينجو طفل واحد مع والدته. تصف آية كيف أقنعت نفسها بأن قلب طفلها لا بد أن يكون ما زال ينبض لأنها شعرت بنبضها هي، قبل أن تدرك قسوة الحقيقة.

 

تستعيد صورة يامن “الفيلسوف الصغير” الذي سأل يومًا لماذا تأكل الحيوانات بعضها، وتحاول أن تفهم كيف سبق الموت عناقها. تكتب عن وداع لم يكتمل، وعن أمنية مستحيلة بعودة طفلها ولو في حلم، لتسأله إن كانت قد اشتاقت إليه كما اشتاقت هي بلا توقف.

 

طفولة مسروقة

 

تفقد آية حسونة زوجها وطفليها في أغسطس 2024 عندما يضرب صاروخ خيمة نزوحهم في خان يونس. تبقى وحدها، تستيقظ كل صباح وتنظر إلى المكان الذي قُتلوا فيه، وتواجه أسئلة طفل نجا كان يلعب مع ابنها: متى يعود حمزة؟ ولماذا لا يتصل؟

 

ترفض آية وصف طفليها بالموتى، وتؤكد أنهم أحياء عند ربهم، بينما تصف ليالي النزوح حيث تسمع بكاء طفلة يشبه صوت ابنتها، فتسهر حتى الفجر متشبثة بالصبر وأمل اللقاء.

 

عائلات تُمحى

 

أما أسماء المغاري فتفقد 23 فردًا من عائلتها، بينهم طفلاها، عندما يقصف الطيران الإسرائيلي منزلهم في مخيم البريج في أكتوبر 2023. تُدفن الأجساد بعد 29 يومًا في قبر واحد، وترفض الأم رؤية طفليها كي تحتفظ بصورتهما في الحياة. تكتب في الأعياد عن ملابس لم تُلبس، ونقود عيد لم تُعطَ، وتخاطبهما قائلة إن مكانهما الجنة.

 

ترى أسماء في صور الأطفال القتلى نقيض عالم موازٍ ينعم فيه طفل بحكاية ما قبل النوم، وتعلّق على تكريم سياسيين لجنود شاركوا في قتل أطفالها بوصفه صورة فجة لعدالة عالمية غائبة.

 

تتباطأ وتيرة القتل بعد إعلان وقف إطلاق النار، لكن الجراح تبقى مفتوحة. يعيش أهل غزة فوق ملايين الأطنان من الركام، ويلازمهم الحزن ما تبقى من العمر، في ظل غياب إرادة دولية جادة لإعادة الإعمار أو لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم. تبقى شهادات الأمهات فعل مقاومة أخير، يرفض اختزال الأطفال في أرقام، ويصرّ على سرد خسارة لا تُحتمل، لكنها تصنع ذاكرة لا تموت.

 

https://www.middleeasteye.net/opinion/what-its-like-survive-gaza-all-children-killed